كتاب اللغة العربية الصف 10 الفصل الثالث
محتوى الموضوع
هدا الملف ل الصف 10 عام لمادة لغة عربية الصف 10 الفصل الثالث
كتاب اللغة العربية الصف 10 الفصل الثالث
الشقاء
أنطون تشيخوف
الشفق يؤذن باقتراب الليل، وندف كبيرة من الثلج تتطاير في بطء حول مصابيح الطريق التي أضاءت لتوها، وتكسو الشقوف وظهور الخيل والأكتاف وأغطية الرؤوس بطبقة رقيقة ناعمة، وقائد الزحافة، «أيونا بوتابوف» أبيض من قمة رأسه إلى قدميه، أبيض كالشبح يجلس على مقعد القيادة دون أن يتحرك، منحنيا كأقصى ما يستطيع الجسد البشري أن ينحني، ويبدو ثابتا بحيث لو تساقط عليه تيار ثلجي منتظم لما فكر في إزاحة الثلج عن جسده، ومهره الصغيرة بيضاء وساكنة أيضا، وهي تبدو بسكونها وبحدة خطوط جسمها وبقوائمها الرفيعة التي تشبه العصا في استقامتها أشبه ما تكون بلعبة من لعب الأطفال، وأغلب الظن أنها كانت غارقة في التفكير، فأي مخلوق ينتزع من المحراث ومن الحقول المنبسطة التي ألفتها عيناه، و يرمى
به في هذه البؤرة المليئة بالأضواء المخيفة، وبضجة لا تنقطع، وينشر في عجلة من أمرهم، أي مخلوق هذا شأنه لابد وأن يفكر.
وكان قد مضى وقت طويل دون أن يتحرك «أيونا» ومهره، لقد خرجا من الإسطبل وقت العشاء ومع ذلك لم يركب الزحافة راكب واحد، ولكن ظلال الليل تهبط الآن على المدينة، ولو مصابیح الطريق الشاحب يتحول إلى ضوء وهاج، وضجة الطريق تشتد، ويسمع «أيونا» صوتا ينادي: زحافة إلى «فيبر جسکایا» .. زحافة وينتبه «أيونا»، ويرى من خلال عينيه المغطاة في الثلج النادي فيجده ضابطا في معطف عسكري وغطاء للرأس، ويكرر الضابط كلامه إلى «فيبر جسکایا» هل أنت نائم ؟ إلى «فيبر جسکایا». . ويشد «أيونا» اللجام دلالة على الموافقة فتتطاير قطع الثلج من على ظهر المهرة ومن على أكتافه، ويركب الضابط الحافة، ويقرقع قائد الحافة، و يلوح بالسؤط بگم العادة لا يحكم الضرورة، وتشد المهرة عنقها هي الأخرى، وتلتوي ساقاها الشبيهتان بالعصا، وتبدأ في السير بد وفي الحال يسمع «أيونا» صوتا يصيح به، صوتا ينبعث من كتلة من الظلام أمام عينيه: إلى أين تتجه !؟ إلى أين تتجه !؟ الزم يمينك أيها الرجل
فيقول له الضابط في غضب: إنك لا تعرف القيادة، الزرم اليمين.
ويغضب منه سائق يسوق عربة، وينظر إليه أحد المشاة في غضب وهو يزيح الثلج عني و عندما اصطدم ذراعه بأن الحصان وهو يعبر الطريق؛ ويتحرك «أبونا» على مقعد القيادة كما لو كان غائبا عن الوعي، لا يعرف أين هو؟ ولم وجد في هذا المكان؟
وقال الضابط متفكها : یا لهم من أشرار! إنهم يحاولون ما بوسعهم لكي يصطدموا بعربي، ولكي يقعوا تحت حوافر حصانك، إنهم يتعمدون ذلك تعمدا.
ونظر «أيونا» إلى الراكب وحركة شفتيه، وكان من الواضح أنه يريد أن يقول شيئا، ولكنه لم يقله، وسأله الضابط ماذا؟
وابتسم «أيونا» ابتسامة كئيبة، ومد عنقه، وخرج صوته خشنا ثقيلا. ابني .. ابني مات هذا الأسبوع سيدي. قال الضابط هيه، مات بماذا؟
وأدار «أيونا» جسمه كله إلى الراكب، وقال: من يدري!؟ لأن أنها الحمى، رقد في المستشفى ثلاثة أيام ثم مات، إنها إرادة الله وفي هذه اللحظة ارتفع صوت من الظلمة قائلا:
استدر أيها الشيطان، هل جننت أيها العجوز، انظر إلى أين أنت متجه؟! قال الضابط أسرع، أسرع، لن نصل إلى هناك إلا في صباح الغير إذا قدت بهذا البطء!
ومد سائق الحافلة عنقه من جديد وارتفع عن مقعده، وقرقع بسوطه، واستدار عدة مرات لينظر إلى الضابط، ولكن الأخير أبقى عينيه مغلقتين وكان من الواضح أنه لا ” يرغب في الاستماع إليه. وبعد أن أنزل «أيونا» راكبه في «فيبر جسکایا»، توقف عند مطعم، ومن جديد انكم في مقعده، ومن جديد لو الثلج الأبيض، ولون مهرته، ومرت ساعة وبعدها ساعة
واتجه إلى الحافلة ثلاثة شبان، اثنان منهما طويلا القامة رفيعاني والثالث أحدب قصير، كانوا يتمایلون، ويدبون بأحذيتهم الثقيلة على الصيف. وصاح الأحدب: إلى (البوليس) أيها السائق، ثلاثتنا، سندفع عشرين ( كوبيك).
وشد «أيونا» اللجام، وقرقع حصانه، ولم تكن العشرون (كوییك) أجرا مناسبا، ولكنه لم يفكر في ذلك، لم يعد الأمر يهمه، (روبيل) أو خمسة (کوبیکات) سیان، مادام معه راكب، وصعد الشبان الثلاثة إلى العربة وهم يتزاحمون، ويحاولون أن يجلسوا كلهم في الوقت نفسه، ولكن كان لابد .. تسوية المسألة، فلم يكن المقعد يتسع إلا لاثنين، وبعد الكثير من الاختلاف اتفقوا على أن يقف الأحدب لأنه أقصرهم، ثم قالوا: حسنا، هيا بنا
قال الأحدب بصوته المتقطع وقد استقر في مكانه، ولقحت أنفاسه عنق «أيونا»: بسرعة، يا لها من عربة! يا صديقي، عربتك هذه لا تستطيع أن تجد في (بترسبرغ) بأجمعها أسوأ منها.
وضحك «أيونا»: هاها .. هاها! إنها ليست مدعاة للفخر.
قال الأحدب: لیست مدعاة للفخر حقا، حسنا أسرع إذا، هل ستقود بهذا البطء طيلة الطريق؛ ها، هل أضربك على قفاك
أحس «أيونا» بالأحدب تخلف ظهره يدفعه وبصوته الغاضب يرتعش، وشيئا فشيئا بدأ يزول شعور (أيونا) بالوحدة، وتقل وطأه في قلبه، ويستمر الأحدب يتكلم غاضبا حتى يبدأ في الضحك على فكاهة ألقاها أحد زمیلیه، واستمر يضحك حتى داهمه السعال، وظل زميلاه يتحدثان، و (أيونا) ينظر إليهم، وينتظر حتى سادت فترة صمت قصيرة، فالتفت إليهم من جديد، وهو يقول: هذا الأسبوع مات ابني، هذا الأسبوع ابني مات.
تنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه عقب السعال، ثم قال: كلنا سنموت، والآن أسرع أسرع، أنا وصديقاتي لا نستطيع أن نتحمل الزحف البطيء
إلى جانب موقد نار قديم عليه أرائك خشبية، وفوقها أشخاص يغطون في النوم، والهواء ثقيل مليء بالروائح العفنة، ونظر «أيونا» إلى النائمين، وحك جلده، وندم على أنه عاد إلى البيت مبكرا.
لم أكسب ما يكفي حتى لثمن الشوفان، وهذا هو السبب في أنني أشعر بذلك الشقاء، فالرجل الذي يعرف كيف يقوم بعمله، ويكسب ما يكفيه ويكفي حصانه يشعر بالراحة ومن رکن من الأركان ينهض سائق سابق والنوم يغلب عليه، ويتجه إلى مكان المياه، ويسأله «أيونا»: هل تريد أن تشرب؟ فرد عليه قائلا: يبدو هذا ، قال له:
بالعافية، ولكن ابني مات یا زميلي، أتسمع؟ هذا الأسبوع في المستشفى، إنه أمر غریب، ونظر «أيونا» ليرى الأثر الذي تركته کلماته ولكنه لم ير لكلماته أثرا، كان الشاب قد غطى رأسه، واستغرق في النوم
تنهد الرجل العجوز، وحك جلده، كان يحس بعطش إلى الكلام كعطش الشاب إلى الماء، ها هو أسبوع قد أوشك أن ينصرم من مات ابنه، وهو لم يحدث أحدا بعد حديثا حقيقيا، إنه يريد أن يتحدث عن الموضوع حديثا جدا، يريد أن يحكي كيف مرض ابه؟ وكيف تعب؟ وماذا قال قبل أن يموت؟ وكيف مات؛ إنه يريد أن يصف الجنائية وكيف ذهب إلى المستشفى لاستلام ملابس ابنه، وما زال لديه ابنه «أنيسيا» في الريف وهو يريد أن يتحدث معها أيضا، إن لديه الكثير، يريد أن يتنهد، وأن يجد من يستمع إليه، يريد أن يعجب من الزمن وأن يرثي ابته، أحس أنه من الأفضل أن يتحدث إلى النساء فهن يدمعتي عند الكلمة الأولى.
قال «أيونا» لنفسه دعنا نخرج، ولي نظرة على المهرة، ففي الوقت متسع للنوم دائما، لا تخف، فستنام بما فيه الكفاية. لبس «أيونا» معطفه، وذهب إلى الإسطبل حيث تقف المهرة، وهو يفكر في الشوفان وفي العشب وفي الجو، وهو لا يستطيع أن يفكر في ابنه، وهو وحيد، من الممكن أن يتحدث عنه مع شخص ما، ولكن التفكير فيه وتصوره الم محض لا يمكن للإنسان تحمله